كل الحقوق محفوظة
ولنبدأ بعون الله:
** قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" النساء 65
وأوجه الدلالة ثلاثة:
أ- أن الله تعالى علَّق الوصف –الذي هو الكفر- على الموصوف –الذي هو الحاكم بغير ما أنزل الله- بمجرد تلبُّسه بالصفة –التي هي الحكم بغير ما أنزل الله- دون النظر للاعتقاد.
ب- أن الأصل في وصف الله له بأنه كافر الكفر الأكبر؛ لأن اللفظ إذا أُطلق في الشرع انصرف إلى كماله إلا بدليل.
ج- أن شيخ الإسلام ابن تيمية استقرأ لفظ الكفر في الشريعة وتبين له أنه لا ينصرف إلا إلى الأكبر دون الأصغر.
الجواب عن ذلك:
اقرأ ما كتبتُ في العنصر الأول والرابع من هذا الفصل, ففيهما ما يفصل النزاع بفضل الله... إليك هذا:
أولاً: صحيح أن الآية علّقت الكفر بالحاكم بمجرّد التحكيم؛ لكن الكفر المعلّق هنا هو أصغر لا أكبر، بدلالة الإجماع –الذي سيأتي في فصل أقوال العلماء في الآية, وكذلك ما سيأتي في آخر البحث- على أن الآية ليست على عمومها.
ثانياً: القول بأن الأصل في وصف الله له بأنه كافر: الكفر الأكبر؛ لأن اللفظ إذا أُطلق في الشرع انصرف إلى كماله إلا بدليل. هذا القول لا ثمرة منه بعد بيان الصارف لهذا – فانظر شرح الآية في العنصر الرابع من هذا الباب- من إرادة الأكبر إلى الأصغر.
ثالثاً: القول بأن شيخ الإسلام ابن تيمية استقرأ لفظ الكفر في الشريعة ونصّ على أنه لا يتّجه إلا إلى الأكبر صحيح؛ لكنّ استقراءه -رحمه الله- جاء على المصدر (الكفر) والآية اسمُ فاعل (كافر) وفرق بينهما إذ المصدر يدل على الفعل وحده أما اسم الفاعل فهو دالٌّ على الفعل والفاعل.
لذلك قال ابن تيمية(فتاوى7/312):
"وإذا كان من قول السلف: (إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق)، فكذلك في قولهم: (إنه يكون فيه إيمان وكفر) ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملّة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قالوا: كفروا كفراً لا ينقل عن الملة، وقد اتّبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة"ا.هـ.
** قوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" النساء 60
ووجه الدلالة:
أن الله نفى الإيمان عمّن لم يحكِّم الشرع، بل ولابدّ من ألاَّ يجد في نفسه الحرجَ والضِّيق، بل ويُسلّم بهذا التسليم التامّ؛ فيكون الحاكم بغير ما أنزل الله بمجرد تحكيمه كافراً كفراً أكبر لأنه حكّم غير شرع الله ولأن الإيمان قد نفي عنه.
والجواب عن هذا الدليل:
هناك دليلٌ دلّ على أن المنفيّ هنا كمال الإيمان لا أصله؛ لأن الآية نزلت في رجلٍ أنصاريٍّ بدريٍّ، والبدريون معصومون من الوقوع في الكفر الأكبر ، حيث جرت خصومة بين الزبير-رضي الله عنه- وذاك الرجل -رضي الله عنه- فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بقضاءٍ أغضبَ الأنصاري فقال: أن كان ابن عمتك؟ والقصة أخرجها الستة إلا ابن ماجه .
فانظر كيف ضاق صدر ذاك البدريّ ولم يقع منه التسليمُ الكاملُ بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم.
لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (فتاوى7/37): "كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج وغير ذلك فإنما يكون لترك واجبٍ من ذلك المسمى ومن هذا قوله تعالى: (فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية؛ دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وُعِدَ أهله بدخول الجنة بلا عذاب" ا.هـ.
وقال أيضاً(فتاوى22/350): "فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسنة فإنما هو لانتفاء بعض واجباته كقوله تعالى: (ثم ساق الآية)" ا.هـ.
** قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً "
حيث صاروا منافقين لكونهم يريدون التَّحاكم إلى الطاغوت وجعل اللهُ إيمانهم مزعوماً فيكون من تحاكموا إليه أشدّ نفاقاً.
والجواب: لا دلالة في الآية على مسألة البحث من أوجه:
الوجه الأول: أن الآية محتملةٌ في معناها لأمرين:
1. أن إيمانهم صار مزعوماً لكونهم أرادوا الحكم بالطاغوت وهذا ما يتمسّك به المُخالف.
2. أن من صفات أهل الإيمان المزعوم –المنافقين– كونهم يريدون التحاكم للطاغوت، ومشابهة المؤمن للمنافقين في صفةٍ من صفاتهم لا توجب الكفر.
فعلى هذا, من حكم بغير ما أنزل الله فقد شابه المنافقين في صفةٍ من صفاتهم وهذا لا يوجب الكفر إلا بدليل آخر كمن شابه المنافقين في الكذب لم يكن كافراً فإذا ورد الاحتمال في أمرٍ بين كونه مكفِّراً أو غير مكفِّر لم يكفر بهذا الأمر لكون الأصل هو الإسلام فلا يصح التمسك بهذه الآية في التكفير لذلك الاحتمال.
والوجه الثاني: أن هؤلاء يريدون الحكم بالطاغوت لكن إرادتهم هذه ليست إرادةً مطلقةً بل هي إرادةٌ تنافي الكفر الإعتقادي به. ومن لم يعتقد وجوب الكفر بالطاغوت فلا شك في كفره الكفر الأكبر؛ قال تعالى: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى".. قال ابن جرير الطبري(5/96):
"يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت يعني إلى من يعظمونه ويصدرون عن قوله ويرضون بحكمه من دون حكم الله وقد أمروا أن يكفروا به يقول وقد أمرهم أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكمون إليه فتركوا أمر الله واتبعوا أمر الشيطان" ا.هـ.
** قوله تعالى: "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليُجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون", فطاعة هؤلاء في حكمهم بغير ما أنزل الله شركٌ, فيكون المُطاعُ أظهر شركاً.
والجواب:
1. أن ظاهر الآية يقول بأن كل طاعة هي شرك، وهذا غير مراد قطعاً، فـ:
2. الطاعة المرادة هنا هي الطاعة في التحليل والتحريم؛ يعني أنه يوافقهم فيعتقد تحليل الحرام وتحريم الحلال. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (الرسائل والمسائل النجدية3/46): "…حكم على أن من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرم الله أنه مشرك وأكـد ذلك بإن المؤكدة…" ا.هـ.
** قوله تعالى: "أم لهم شركاءُ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" , فجعل الله المُشرِّع مُشارِكاً له في التشريع، ومن ثَمّ صار المُشرِّع مشركاً كافراً.
والجواب:
قال الإمام ابن كثير: "إنهم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وتحليل الميتة والدم والقمار.. من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأقوال الفاسدة" ا.هـ.
وقال ابن جرير(25/14):
"يقول تعالى ذكره: أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، يقول: ابتدعوا لهم من الدين ما لم يُبحِ الله لهم ابتداعه" ا.هـ.
فالآية كفَّرتْ من جمع بين وصف التشريع (شرعوا لهم) والزعم أنه من الدين (ما لم يأذن به الله) وهذا هو المسمى بالتبديل –وسوف يأتي-. فهذه الآية إذاً خارج محلّ النزاع.
** قوله تعالى: "ولا يشرك في حكمه أحداً" ؛ والحاكم بغير ما أنزل الله قد جعل نفسه مشاركاً لله في حكمه فهو مشرك كافر.
والجواب:
1. أن الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويقول (هذا حكم الله) أو يعتقد لنفسه الجواز؛ يكون مشاركاً لله في حكمه سبحانه وتعالى الذي هو من خصائصه؛ فإن كان كذلك فقد سبق أن هذا كفرٌ لا شك فيه وأنه خارج محل البحث؛ لأنه إما مبدَّل أو مستحِلّ.
2. وإن لم يكن كذلك بأن كان يرى أنه مخطئ وأنه لا يجوز له ذلك فلا يصح الاستدلال على كفره بالآية؛ لأنه ليس مشاركاً لله تعالى في حكمه كسائر أهل المعاصي.
** قوله تعالى: "إن الحكم إلا لله" [ الأنعام 57, يوسف40, 67], ومن وضع أحكاماً من عنده فقد نازع الله في أمر خاصٍ به فمن ثَمّ يكون شركاً.
والجواب: تماماً كما قيل في الدليل الذي قبله..
1. فالرجل الذي حكم بغير ما أنزل الله إن كان معتقداً لنفسه الجواز, كان زاعماُ لنفسه مشاركة الله في حكمه وهذا لا نتكلم عنه.
2. أما إن لم يكن زاعماً لنفسه ذلك -وهو محلّ البحث- فالآية لا تتكلم عنه، فالدليل إذاً خارج محل النزاع.
3- انظر العنصر الخامس من الفصل الثاني في هذا البحث.
** قوله تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله "، فأهل الكتاب لما أطاعوا علماءهم وعبَّادهم في حكمهم بغير ما أنزل الله وَصَفَهُم الله بأنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله؛ فالمُتَّخِذُ مشركٌ والمُتَّخَذُ أظهر شركاً.
والجواب:
أن طاعة هؤلاء لأحبارهم ورهبانهم لا تخرج عن حالتين:
1. طاعتهم في اعتقاد تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله؛ وهذا لاشك أنه كفر مخرجٌ من الملة.
2. طاعتهم في معصية الله بدون اعتقاد تحليل ما حرم الله ولا تحريم ما أحل الله؛ وهذا ليس بكفرٍ قطعا,ً وإلا للزم منه تكفير أهل الذنوب والمعاصي لأنهم أطاعوا هواهم في معصية الله سبحانه وتعالى. ومثله لزوم تكفير من يطيع زوجته وأولاده في معصية الله.
وهذا عينُ ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية(فتاوى7/70): "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين: أحدهما: أن يعلموا أنهم بدّلوا دين الله فيتّبعونهم على التبديل؛ فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتِّباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل؛ فهذا كفرٌ… والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً؛ لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعله أهل المعاصي التي يَعْتَقِدُ أنها معاصٍ؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب…" ا.هـ.