الناسخ و المنسوخ في القرآن الحكيم والسنة المطهرة...سلسلة حلقات
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و كفى بالله شهيدا
وبعد،
فهذه سلسلة حلقات تتناول معنى النسخ في القران الكريم وتجلّيه بأسلوب مبسط خال من الحشو والتعقيد والله الموفق ويهدي من يشاء الى صراط مستقيم.
الحلقة الأولى: معنى النسخ في لغة العرب.
من المهم جدا معرفة الأصل اللغوي الذي اشتق منه المصطلح الشرعي، وذلك بالرجوع الى كتب أئمة اللغة والتفسير ولا نعتمد على الدارج من لغتنا فقط. واعلم ايها القارئ الكريم أن رجوعنا للمعنى اللغوي وأساليب العرب في البيان في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم ومقاصدهم في كلامهم ، ضرورة حتمية نظرًا لنزول القرآن بلغة العرب، فلابد لمعرفة وفهم قضاياه من الرجوع للعرب القدماء الذين نزل القرآن بلغتهم، ولا يخفى عليك أن العجمة قد عمت وطالت جميع الألسن ولم يعد فينا سيبويه ولا الأخفش فضلا عن الشافعي الحجة في اللغة أو أبي الأسود الدؤلي وأمثاله من أئمة اللغة وأربابها، وما أجمل ما قاله الامام محمد الطاهر بن عاشور:
ان القرآن كلام عربي فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم لمن ليس بعربي بالسليقة ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي وهي : متن اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان . ومن وراء ذلك استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين(التحرير والتنوير) ٍ
ما معنى النسخ يا أئمة العربية؟
يقول امام العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي:
النَّسْخُ والانتساخُ : اكتتابُك في كتابٍ عن مُعارِضه
والنَّسْخُ : إزالتُك أمراً كان يُعْمَلُ به ثم تَنْسَخُهُ بحادثٍ غَيْرِه كالآية تُنْزَلُ في أمر ثمّ يُخفَّف فتُنْسَخُ بأُخْرَى فالاولى منسوخة والثانية ناسخة
وتناسُخُ الوَرَثِة وهو موتُ وَرَثةٍ بعد وَرَثةٍ والميراثُ لم يُقْسَمْ وكذلك تَناسُخُ الأَزْمنة والقَرْن بَعْدَ القَرْن .(العين:4\201)
ويقول ابن المنظور:
1-نسخ الشيءَ ينسَخُه نَسْخاً وانتسَخَه واستنسَخَه اكتتبه عن معارضه التهذيب النَّسْخ اكتتابك كتاباً عن كتاب حرفاً بحرف والأَصل نُسخةٌ والمكتوب عنه نُسخة لأَنه قام مقامه والكاتب ناسخ ومنتسخ والاستنساخ كتب كتاب من كتاب وفي التنزيل إِنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون أَي نستنسخ ما تكتب الحفظة فيثبت عند الله وفي التهذيب أَي نأْمر بنسخه وإِثباته(وهذا المعنى الذي ذكره الدكتور)
2-والنَّسْخ إِبطال الشيء وإِقامة آخر مقامه وفي التنزيل ما نَنسخْ من آية أَو نُنسها نأْت بخير منها أَو مثلها والآية الثانية ناسخة والأُولى منسوخة وقرأَ عبدالله بن عامر ما نُنسخ بضم النون يعني ما ننسخك من آية والقراءَة هي الأُولى(قال) ابن الأَعرابي النسخ تبديل الشيء من الشيء وهو غيره ونَسْخ الآية بالآية إِزالة مثل حكمها والنسخ نقل الشيء من مكان إِلى مكان وهو هو قال أَبو عمرو حضرت أَبا العباس يوماً فجاء رجل معه كتاب الصلاة في سطر حرّ والسطر الآخر بياض فقال لثعلب إِذا حولت هذا الكتاب إِلى الجانب الآخر أَيهما كتاب الصلاة ؟ فقال ثعلب كلاهما جميعاً كتاب الصلاة لا هذا أَولى به من هذا ولا هذا أَولى به من هذا.
(قال) الفرّاء وأَبو سعيد مَسَخه الله قرداً ونسخه قرداً بمعنى واحد ونسخ الشيء بالشيء ينسَخه وانتسخه أَزاله به وأَداله والشيء ينسخ الشيء نَسْخاً أَي يزيله ويكون مكانه.
(قال) الليث النسْخ أَن تزايل أَمراً كان من قبلُ يُعْمَل به ثم تنسخه بحادث غيره .
(قال)الفرّاء النسخ أَن تعمل بالآية ثم تنزل آية أُخرى فتعمل بها وتترك الأُولى والأَشياء تَناسَخ تَداوَل فيكون بعضها مكان بعض كالدوَل والمُلْك وفي الحديث لم تكن نبوّةٌ إِلاَّ تَناسَخَت أَي تحولت من حال إِلى حال يعني أَمر الأُمة وتغاير أحوالها والعرب تقول نسَخَت الشمسُ الظلّ وانتسخته أَزالته والمعنى أَذهبت الظلّ وحلّت محله قال العجاج إِذا الأَعادي حَسَبونا نَخْنَخوا بالحَدْرِ والقَبْضِ الذي لا يُنْسَخ أَي لا يَحُول ونسَخَت الريح آثار الديار غيرتها والنُّسخة بالضم أَصل المنتسخ منه والتناسخ في الفرائض والميراث أَن تموت ورثة بعد ورثة وأَصل الميراث قائم لم يقسم وكذلك تناسخ الأَزمنة(لسان العرب بتصرف يسير )
قال الراغب:
نسخ : إزالة شيء يتعقبه كنسخ الشمس الظل والظل الشمس والشيب الشباب . فتارة يفهم الإزالة وتارة يفهم منه الإثبات وتارة يفهم منه الأمران(مفردات القرآن)
4-الامام العلامة محمد الطاهر بن عاشور:
وقد يطلق على الإزالة فقط دون تعويض كقولهم نسخت الريح الأثر وعلى الإثبات لكن على إثبات خاص وهو إثبات المزيل وأما أن يطلق على مجرد الإثبات فلا أحسبه صحيحا في اللغة وإن أوهمه ظاهر كلام الراغب وجعل منه قولهم نسخت الكتاب إذا خططت أمثال حروفه في صحيفتك إذ وجدوه إثباتا محضا لكن هذا توهم لأن إطلاق النسخ على محاكاة حروف الكتاب إطلاق مجازي بالصورة أو تمثيلية الحالة بحالة من يزيل الحروف من الكتاب الأصلي إلى الكتاب المنتسخ ثم جاءت من ذلك النسخة(التحرير و التتوير)
تنبيه مهم جدا:
لم أتعرض الى أقوال الصحابة و التابعين في هذه الحلقة وهم أئمة العربية الأول و أساطين اللغة وقولهم ولا ريب مقدم على قول غيرهم ، وأرجأت ذلك الى الحلقة الثالثة ، حيث سأذكر جملة من أقوالهم عند تفسير آية النسخ ان شاء المولى عز وجل.
ولعلي أذكر لك الآن هذا المثال الطريف لاحد دكاترة هذا العصر الذي بحث في هذا الموضوع، وتأمل أيها القارئ النبيه في جهله بأبجديات البحث العلمي و التعامل مع النصوص الشرعية، يقول الدكتور:
فى لغتنا العادية نقول "نسخ المذكرة" أى كتبها، ونقول أطبع لى هذا الكتاب ألف نسخة، وذهبت إلى مكتب النسخ لأنسخ على الآلة الكاتبة عشر نسخ من هذه المذكرة ونقول "انسخ لى بالخط النسخ".والمعنى المألوف للنسخ هنا هو الكتابة والإثبات وليس الحذف والإلغاء، وهذا فى اللغة العربية التى نزل بها القرآن والتى لا تزال نستعملها.أهـ
هكذا وبكل بساطة يؤصل الدكتور الباحث المعنى اللغوي الأصلي لاهم مفردة في بحثه" النسخ"..
مرجعه لغتنا الدارجة وشاهده عبارات العامة!
يقول وهذا هو المعنى المألوف! وهذا كما ترى زعم منه لا أكثر فالمألوف عندي ما ذكره والمعنى الأخر الذي ينكره! وبهذا نكون قد تعادلنا دعوى بدعوى ولكن ما زال في جعبتنا الكثير ، فالأمر دين ولا مجال فيه للدعاوى المجردة العارية عن البرهان، وقد تقدم لك قول أئمة العربية الذي ينسف بنيانه من أساسه .
الرجل ما احتكم الى معاجم اللغة ولا سمع من أئمة العربية ومن حقي كعربي أن أطالب برأي أهل اللغة فيما يقول ولن أقنع بشواهد مأخوذة من لغة الاخوة في شوارع مصر وحاراتها مع عظيم احترامي واعتزازي بكل مصري مسلم ولكننا نحن العرب قد فقدنا ملكة اللغة ولحنت السنتنا ونسينا قسما كبيرا من لغتنا لا نجده الا في بطون المعاجم وداويين الشعراء ومؤلفات الاعلام التي أعرض بعض الناس عنها الى مقالات التافهين النكرات!!
تأمل كيف فاتت المعاني المذكورة على الباحث لما احتكم الى ما يسمعه من العامة دون الرجوع الى العربية من مظانها!
الخلاصة:
ان قول بعض الناس ان معنى النسخ لغة" هو الكتابة والإثبات" فقط ، هو زعم باطلة مخالف لكلام أئمة اللغة الذين نصوا كما تبين في كلامهم السابق على ان من معاني النسخ الأصلية " الازالة والتبديل".